مقدمة
أن القرءان معجز من كل نواحي لا سيما في أسلوبه وصيغه
وآياته ومعانيه وترتيبه وكذلك في أسباب نزوله. فلا بد أن نزلت آيات القرآنية على
الحوادث والوقائع المعينة به. وهذا العلوم يحتاج المفسرين إليها في معرفتهم
ومنهجهم التي أخذوها من النبي صلى الله عليه وسلم متواترا مرسلا. إذن، علينا أن
نعرف أسباب نزول الآيات القرآنية بدقة وعميقة فكما حصلوا الصحابة رضي الله عنهم
أجمعين.
وفي هذا الباب، سأقوم بتعريف أسباب النزول وفوائد معرفته
وتعدد الروايات في سبب النزول وأيضا تعدد النزول مع وحدة السبب.
أسباب النزول
تعريف أسباب النزول
أ. بيان حكمة للتشريع حكم من الأحكام وإدراك مراعاة الشرع للمصالح العامة في علاج الحوادث رحمة بالأمة ومثال كما
من قصة خولة بنت ثعلبة.
ب. تخصيص حكم ما نزل إن كان بصيغة العموم بالسبب عند من يرى أن
العبرة
بخصوص السبب لا عموم اللفظ، وهي مسألة
الخلافية سيأتي لها مزيد من الإيضاح, قد يُمثِّلُ لهذا بقوله تعالى: (لَا
تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَن يَحْمَدُوا
بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّن الْعَذَابِ,
وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[1]
فقد رُوِىَ أن مروان
قال لبوّابة: اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقال: لئن كان كل امرئ منا فرح بما أوتِىَ وأحب
أن يُحْمَدَ بما لم يفعل يعذّب ليعذبنّ أجمعون: فقال ابن عباس: ما لكم ولهذه الآية،
إنما نزلت في أهل الكتاب. ثم قال: (وَإِذَا أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ
أُوتُوا الكِتَابَ)[2]
الآية قال ابن عباس: سألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه إياه
وأخذوا بغيرة، فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك إليه وفرحوا
بما أوتوا من كتمان ما
سألهم عنه.[3]
سألهم عنه.[3]
ج.
إذا كان لفظ ما نزل
عاما وورد دليل على تخصيصه فمعرفة السبب تقصر التخصيص على ما
عدا صورته, ولا يصح إخراجها, لأن دخول صورة السبب في اللفظ العام قطعي, فلا يجوز
إخراج ها بالاجتهاد لأنه ظنّي، وهذا هو ما عليه الجمهور وقد يُمَثِّلُ لهذا بقوله
تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ
لُعِنُوا فِي الدُنْيَا والْأَخِرَةِ, وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ # يَوْمَ تَشْهَدُ
عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَاَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ # يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ
أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ #)[4]
فإن هذه الآية نزلت في عائشة خاصة أو
فيها وفي سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم, عن ابن عباس في قوله: (إِنَّ الَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحصَنَاتِ) ... الآية: نزلت خاصة عائشة خاصة[5] وعن ابن
عباس في هذه الآية أيضا: هذه في عائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم, ولم يجعل
الله لمن فعل ذلك توبة, وجعل لمن رمى امرأة من المؤمنات من غير أزواج النبي صلى
الله عليه وسلم التوبة – ثم قرأ: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ
لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءِ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا
تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا, وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ # إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ
وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[6] وعلى هذا
فإن قبول توبة القاذف وإن كان مخصصا لعموم قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ
الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ)[7] لا
يتناول بالتخصيص من قذف عائشة, أو قذف سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم, فإن
هذا لا توبة له, لأن دخول صورة السبب في
اللفظ العام قطعي.
د.
ومعرفة
سبب النزول خير سبيل لفهم معاني القرآن، وكشف الأحداث التي تكتنف بعض الآيات في
تفسيرها ما لم يعرف سبب نزولها
ومن أمثلة ذلك: ما أشكل
على مروان بن الحكم في فهم الآية الآنفة الذكر: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ
يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَّيُحِبُّونَ أَن يَحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا
فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[8]
حتى أورد له ابن عباس سبب النزول.
ومثله الآية: (إِنَّ
الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ الله، فَمَن حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ
فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَ، وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَغِنَّ
اللهَ شَاكرٌ عَلِيمٌ)[9].
فإن ظاهر لفظ الآية لا
يقتضي أن السعي فرض، لأن رفع الجناح يفيد الإباحة لا الوجوب، وقد ردت عائشة على
عروة بن الزبير في فهمه ذلك بما ورد في سبب نزولها، وهو أن الصحابة تأثموا من السعي
بينهما لأنه من عمل الجاهلية، حيث كان على الصفا أساف، وعلى المروة نائلة، وهما
صنمان، وكان أهل الجاهلية إذا سعوا مسحوهما.
عن عائشة أن عروة قال
لها: أرأيت قول الله: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللهِ، فَمَن
حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا)؟
فما أرى على أحد جناحا أن لّا يطَّوَّفَ بهما؟ فقالت عائشة: بئس ما قلت بابن أختي،
إنها لو كانت على ما أوّلتها كانت: فال جناح عليه أن يطّوّف بهما. ولكنها إنما
أنزلت، أن الأنصار قيل أن يسلموا كانوا يُهِلُّون لمناة الطاغية التي كانوا
يعبدونها، وكان من أهل لها يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة في الجاهلية، فأنزل الله:
(إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ الله)... الآية, قالت عائشة: ثم قد
بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بهما, فليس لأحد أن يدع بهما.
أ.
يوضح سبب النزول من نزلت فيه الآية حتى لا تحمل على غيره بدافع
الخصومة والتحامل، كما في قوله تعالى:
(وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيهِ اُفٍّ
لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَن أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قًبْلِي
وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللهَ وَيْلُكَ آمِنْ إنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ
مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) فقد أراد (معاوية) أن يستخلف (يزيد)
وكتب إلى (مروان) عامله على المدينة بذلك, فجمع الناس وخطبهم ودعاهم إلى بيعة
(يزيد) فأبي عبد الرحمن بن أبي بكر أن يبايع, فأراده (مروان) بسوء لولا أن دخل بيت
عائشة, وقال مروان: إن هذا الذي أنزل الله فيه (وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيهِ
أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَن أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن
قَبْلِي) فردت عليه عائشة وبيّنت له سبب نزولها, (عن يوسف بن ماهك قال: كان مروان
على الحجاز, استعماله معاوية بن أبي سفيان, فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي
يبايع له بعد أبيه, فقال عبد الرحمن بن أبي بكر شيئا, فقال: خذوه، فدخل بيت عائشة
فلم يقدروا عليه, فقال مروان: إن هذا أُنْزِلَ فيه: (وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيهِ
أُفٍّ لَّكُمَا) فقالت عائشة: (ما أنزل الله فينا شيئا من القرءان إلا أن الله
عذري), وفي بعض الروايات: (إن مروان لما طلب البيعة ليزيد قال: سُنَّة أبي بكر
وعمر, فقال عبد الرحمن: سُنَّةُ هرقل وقيصر, فقال مروان: هذا الذي قال الله فيه:
(وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيهِ أُفٍّ لَّكُمَا)... الآية, فبلغ ذلك عائشة فقالت:
كذب مروان, والله ما هو به, ولو شئت أن أسمى الذي نزلت فيه لسميته).
تعدد الروايات في سبب النزول
قد تعدد الروايات في سبب نزول آية واحدة، في مثل هذه
الحالة يكون موقف المفسر منها على النحو الآتي:
(أ) إذا لم تكن الصيغ الواحدة صريحة مثل: (نزلت هذه
الآية في كذا) أو (أحسبها نزلت في كذا) فلا منافاة بينها، إذ المراد التفسير،
وبيان أن ذلك داخل في الآية ومستفاد منها، وليس المراد ذكر سبب النزول, إلا إن
قامت قرينة على واحدة بأن المراد بها السببية.
(ب) إذا كانت إحدى الصيغ غير صريحة كقوله: (نزلت في
كذا) وصرّح آخر بذكر سبب مخالف فالمعتمد ما هو نص في السببية، وتحمل الأخرى على
دخولها في أحكام الآية، ومثال ذلك ما ورد في سبب نزول قوله تعالى: (نِسَاؤُكُمْ
حَرْثٌ لَّكُمْ فَاْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ): [عن نافع قال: قرأتُ ذات
يوم: (نِسَاؤُكُم حَرْثٌ لَّكُمْ) فقال ابن عمر: أتدري فيم أنزلت هذه الآية؟ قلت:
لا، قال: نزلت في إتيان النساء في أدبارهن] فهذه الصيغة من ابن عمر غير صريحة في
السببية. وقد جاء التصريح بذكر سبب يخالفه (عن جابر قال: كانت اليهود تقول: إذا
أتى الرجل امرأته من خلفها في قبلها جاء الولد أَحْوَلٌ، فنزلت: (نِسَاؤُكُمْ
حَرْثٌ لَّكُمْ فَاْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) فجابر هو المعتمد لأن كلامه
نقل صريح وهو نص في السبب، أما كلام ابن عمر فليس بنص فيُحمَل على أنه استنباط
وتفسير.
(جـ) وإذا تعددت الروايات وكانت جميعها نصا في
السببية وكان إسناد أحدها صحيحا دون غيره فالمعتمد الرواية الصحيحة. مثل: ما أخرجه
الشيخان وغيرهما عن جُنْدُبْ البُجَلِي قال: (اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم فلم
يقم ليلتين أو ثلاثا، فأتته امرأة فقالت: يا محمد، ما أرى شيطانك إلا قد تركك، لم
يقربك ليلتين أو ثلاثة، فأنزل الله: (والضحى # والليل إذا سجى # ما ودعك ربك وما
قلى ) وأخرج الطبراني وابن أبي شيبة عن حفص بن ميسرة عن أمه، عن أمها – وكانت خادم
رسول الله صلى الله عليه وسلم – أن جروًا دخل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فدخل
تحت السرير، فمات، فمكث النبي صلى الله عليه وسلم أربعة أيام لا ينزل عليه الوحى،
فقال: يا خولة: ما حدث في بيت النبي صلى الله عليه وسلم؟ جبريل لا يأتيني! فقلت في
نفسي: لو هيأت البيت وكنسته، فأهويت بالمكنسة تحت السرير، فأخرجت الجرو، فجاء
النبي صلى الله عليه وسلم ترعد لحيته، وكان إذا نزل عليه أخذته الرعدة فقال: يا
خولة دثِّريني فأنزل الله: (والضُّحَى) ... إلى قوله: (فَتَرْضَى) قال ابن حجر في
(شرح البخاري): (قصة إبطاء جبريل بسبب الجرو مشهورة، لكن كونها سبب نزول الآية
غريب، وفي إسناده من لا يُعْرَف، فالمعتمد ما في الصحيحين).
(د) فإذا تساوت الروايات في الصحة وَوُجِدَ وجه من
وجوه الترجيح كحضور القصة مثلا أو كون إحداها أصح قُدِّمت الرواية الراجحة، ومثال
ذلك ما أخرجه البخاري عن ابن مسعود قال: (كنتُ أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم
بالمدينة، وهو يتوكأ على عسيب، فمر بنفر من اليهود، فقال بعضهم: لو سألتموه،
فقالوا: حدِّثنا عن الروح، فقام ساعة ورفع رأسه، فعرفْتُ أنه يوحى إليه، حتى
صُعِدَ الوحى، ثم قال: (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّيْ، وَمَا أُوتِيتُمْ
مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيْلًا)... وقد
أخرج الترمذي وصححه عن ابن عباس قال: (قالت قريش لليهود: اعْطَوْنَا شيئًا نسأل
عنه هذا الرجل، فقالوا: اسْأَلوهُ عن الروح، فسألوه فأنزل الله: (وَيَسْأَلُونَكَ
عَنِ الرُّوحِ، قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّيْ) ... الآية، فهذه الرواية تقتضي
أنها نزلت بمكة حيث كانت قريش، والرواية الأولى تقتضي أنها نزلت بالمدينة، وترجح
الرواية الأولى لحضور ابن مسعود القصة، ثم لما عليه الأمة من تلقَّى صحيح البخاري
بالقبول وترجيحه على ما صح في غيره. وقد اعتبر (الزركشي) هذا المثال من باب تعدد
النزول وتكرره، فتكون هذه الآية قد نزلت مرتين: مرة بمكة، ومرة بمدينة، واستند في
ذلك إلى أن سورة (سبحان) مكية بالاتفاق.
وإني أرى أن كون السورة مكية لا ينفى أن تكون آية
منها أو أكثر مدينة، ومل أخرجه البخاري عن ابن مسعود يدل على أن هذه الآية: (قُلِ
الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّيْ، وَمَا أُوْتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا)
مدينة، فالوجه الذي اخترناه من ترجيح رواية ابنن مسعود على رواية الترمذي عن ابن
مسعود أولى من حمل الآية على تعدد النزول وتكرره، ولو صح أن الآية مكية وقد نزلت
جوابا نفسه مرة أخرى، بل يقتضي أن يجيب الرسول صلى الله عليه وسلم بالجواب الذي
نزل عليه من قبل.
(هـ) إذا تساوت الروايات في الترجيح جُمِعَ بينهما إن
أمكن، فتكون الآية قد نزلت بعد السببين أو الأسباب لتقارب الزمن بينها, كآيات
اللعان: (وَالَّذِيْنَ يَرْمُونَ أَزْوَاجِهِمْ) فقد أخرجه البخاري والترمذي وابن
ماجه عن ابن عباس أنها نزلت في هلال بن أمية، قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه
وسلم بشُرَيْك بن سحماء، كما ذكرنا من قبل.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سهل بن سعد قال: (جاء
عويمر إلى عاصم بن عدي، فقال: سل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل وجد مع
امرأته رجلا أيقتله فيقتل به أو كيف يصنع؟ ...) فجمع بينهما بوقوع حادثة هلال أولا،
وصادف مجيء عويمر كذلك، فنزلت في شأنهما معا بعد حادثتيهما. قال ابن حجر: لا مانع
من تعدد الأسباب.
( و ) إن لم يكن الجمع لتباعد الزمان فإنه يحمل على
تعدد النزول وتكرره، ومثاله: ما أخرجه
الشيخان عن المسيب قال: (لما حضر أبا طالب الوفاة دخل عليه رسول الله صلى الله
عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية، فقال: أي عم، قل: لا إله إلا الله
أحاج لك بها عند الله، فقال أبو جهل وعبد الله : يا أبا طالب، أترغب عن ملة أبي
المطلب؟ فلم يزالا يكلمانه حتى قال: هو على ملة عبد المطلب، فقال النبي صلى الله
عليه وسلم: (لأستغفرن لك ما لم أنه عنه) فنزلت: (مَا كَانَ لِلنَّبِيٍّ وَالَّذِينَ
آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوْا لِلْمُشْرِكِيْنَ).
وأخرج الترمذي عن علي قال: (سمعت رجلا يستغفر لأبويه
وهما مشركان فقالت: تستغفر لأبويك وهما مشركان؟ فقال: استغفر إبراهيم لأبيه وهو
مشرك، فذكرتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت.
وأخرج الحاكم وغيره عن ابن مسعود قال: (خرج النبي صلى
الله عليه وسلم يوما إلى المقابر، فجلس إلى قبر منها، فناجاه طويلا ثم بكى، فقال:
(إن القبر الذي جلستُ عنده قبر أمي، وإني استأذنت ربي في الدعاء لها فلم يأذن لي،
فأنزل عليَّ: (مَا كَان لِلنَّبِيٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا
لِلْمُشْرِكِينَ) فجمع بين هذه الروايات بتعدد النزول.
ومن أمثلة كذلك ما رُوِيَ عن أبي هريرة: أن النبي صلى
الله عليه وسلم وقف على حمزة حين استُشهد وقد مُثِّل به، فقال: (لأَمْثِلُنَّ
بِسَبْعِينَ مِنْهُمْ مَكَانَكَ)، فنزل جبريل والنبي صلى الله عليه وسلم واقف
بخواتيم سورة النحل: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقَبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ
بِهِ) ... إلى آخر السورة) فهذا يدل على نزولها يوم أحد.
هذا ما يذكره علماء الفن في تعدد النزول وتكرره، ولا
أرى لهذا الرأي وجها مستساغًا، حيث لا تتضح الحكمة من تكرار النزول، وإنما أرى أن
الروايات المتعددة في سبب النزول ولا يمكن الجمع بينهما يتأتى فيها الترجيح،
فالروايات الواردة في سبب النزول قوله تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيٍ وَالَّذِينَ
آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِين) ... الآية، ترجح فيها الرواية
الأولى على الروايتين الأخيرتين، لأنها وردت في الصحيحين دونهما، وحسبك برواية
الشيخين قوة، فالراجح أن الآية نزلت في أبي طالب، وكذلك الشأن في الروايات التي
وردت في سبب نزول خواتيم سورة النحل، فإنها في درجة سواء، والأخذ بأرجحها أولى من
القول بتعدد النزول وتكرره.
تعدد النزول مع وحدة السبب
قائمة المصادر والمراجع
1.
مناع القطان: مباحث علوم القرءان.
2.
الإتقان في علوم القرءان: علوم القرءان.
3.
الصحيح المسند من أسباب النزول.
[6] أخرجه سعيد بن منصور وابن
جرير الطبراني وابن مردويه (راجع (تفسير ابن جرير) و(ابن كثير)) – والآيتان من
سورة النور: 4 - 5
No comments:
Post a Comment